فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والظاهر أن قوله: {من المسجد الحرام} هو المسجد المحيط بالكعبة بعينه، وهو قول أنس.
وقيل من الحجر.
وقيل من بين زمزم والمقام.
وقيل من شعب أبي طالب.
وقيل من بيت أم هانئ.
وقيل من سقف بيته عليه السلام، وعلى هذه الأقوال الثلاثة يكون أطلق المسجد الحرام على مكة.
وقال قتادة ومقاتل: قبل الهجرة بعام.
وقالت عائشة بعام ونصف في رجب.
وقيل في سبع عشرة من ربيع الأول والرسول عليه السلام ابن إحدى وخمسين سنة وتسعة أشهر وثمانية وعشرين يومًا.
وعن ابن شهاب بعد المبعث بسبعة أعوام.
وعن الحربي ليلة سبع وعشرين من ربيع الآخر قبل الهجرة بسنة، والمتحقق أن ذلك كان بعد شق الصحيفة وقبل بيعة العقبة، ووقع لشريك بن أبي نمر في الصحيح أن ذلك كان قبل أن يوحى إليه، ولا خلاف بين المحدثين أن ذلك وهم من شريك.
وحكى الزمخشري عن أنس والحسن أنه كان قبل المبعث.
وقال أبو بكر محمد بن عليّ بن القاسم الرعيني في تاريخه: أسري به من مكة إلى بيت المقدس وعُرِّج به إلى السماء قبل مبعثه بثمانية عشر شهرًا، ويروى أنه كان نائمًا في بيت أم هانئ بعد صلاة العشاء، فأسري به ورجع من ليلته وقص القصة على أم هانئ وقال: «مثل لي النبيون فصليت بهم».
وقام ليخرج إلى المسجد فتشبثت أم هانئ بثوبه فقال: «ما لك»؟ قالت: أخشى أن يكذبك قومك إن أخبرتهم، قال: «وإن كذبوني» فخرج فجلس إليه أبو جهل فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بحديث الإسراء.
فقال أبو جهل: يا معشر بني كعب بن لؤي هلم فحدثهم فمن بين مصفق وواضع يده على رأسه تعجبًا وإنكارًا، وارتد ناس ممن كان آمن به وسعى رجال إلى أبي بكر فقال: إن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: أتصدقه على ذلك؟ قال: إني لأصدقه على أبعد من ذلك، فسمي الصدِّيق رضي الله تعالى عنه.
ومنهم من سافر إلى المسجد الأقصى فاستنعتوه، فجلى له بيت المقدس فطفق ينظر إليه وينعته لهم، فقالوا: أما النعت فقد أصاب فقالوا: أخبرنا عن عيرنا، فأخبرهم بعدد جمالها وأحوالها وقال: «تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمها جمل أورق» فخرجوا يشتدّون ذلك اليوم نحو الثنية.
فقال قائل منهم: والله هذه الشمس قد شرقت.
وقال آخر: وهذه والله العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمد ثم لم يؤمنوا وقالوا: ما هذا إلاّ سحر بيِّن، وقد عرج به إلى السماء في تلك الليلة وكان العروج به من بيت المقدس، وأخبر قريشًا أيضًا بما رأى في السماء من العجائب، وأنه لقي الأنبياء وبلغ البيت المعمور وسدرة المنتهى.
وهذا على قول من قال: أن هذه الليلة هي ليلة المعراج وهو قول ابن مسعود وجماعة، وذهب بعضهم إلى أن ليلة المعراج هي غير ليلة الإسراء، و{المسجد الأقصا} مسجد بيت المقدس وسمي الأقصى لأنه كان في ذلك الوقت أقصى بيوت الله الفاضلة من الكعبة.
قال ابن عطية: ويحتمل أن يريد بالأقصى البعيد دون مفاضلة بينه وبين سواه، ويكون المقصد إظهار العجب في الإسراء إلى هذا البعد في ليلة انتهى.
ولفظه: {إِلى} تقتضي أنه انتهى الإسراء به إلى حدّ ذلك المسجد ولا يدل من حيث الوضع على دخوله.
و{الذي باركنا حوله} صفة مدح لإزالة اشتراط عارض وبركته بما خص به من الخيرات الدينية كالنبوّة والشرائع والرسل الذين كانوا في ذلك القطر ونواحيه ونواديه، والدنياوية من كثرة الأشجار والأنهار وطيب الأرض.
وفي الحديث: «أنه تعالى بارك فيما بين العريش إلى الفرات وخص فلسطين بالتقديس»، وقرأ الجمهور: {لنريه} بالنون وهو التفات من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم، وقراءة الحسن ليريه بالياء فيكون الالتفات في آياتنا وهذه رؤيا عين والآيات التي أريها هي العجائب التي أخبر بها الناس وإسراؤه من مكة وعروجه إلى السماء ووصفه الأنبياء واحدًا واحدًا حسبما ثبت في الصحيح.
وقال ابن عطية: ويحتمل أن يريد ليرى محمدًا للناس آية، أي يكون النبي صلى الله عليه وسلم آية في أن يصنع الله ببشر هذا الصنع فتكون الرؤية على هذا رؤية القلب.
قال الزمخشري: {إنه هو السميع} لأقوال محمد {البصير} بأفعاله العالم بتهذيبها وخلوصها فيكرمه ويقربه على حسب ذلك.
وقال ابن عطية: وعيد من الله للكفار على تكذيبهم محمدًا صلى الله عليه وسلم في أمر الإسراء، فهي إشارة لطيفة بليغة إلى ذلك أي هو السميع لما تقولون البصير بأفعالكم انتهى. اهـ.

.قال أبو السعود:

{سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ}
سبحان علمٌ للتسبيح كعثمانَ للرجل وحيث كان المسمّى معنى لا عينًا، وجنسًا لا شخصًا لم تكن إضافتُه من قبيل ما في: زيدُ المعارك أو حاتمُ طيْءٍ، وانتصابه بفعل متروكِ الإظهار تقديرُه أسبح الله سبحان إلخ، وفيه ما لا يخفى من الدلالة على التنزيه البليغِ من حيث الاشتقاقُ من السبْح الذي هو الذهابُ والإبعادُ في الأرض، ومنه فرسٌ سَبوحٌ أي واسعُ الجري، ومن جهة النقلِ إلى التفعيل، ومن جهة العدولِ من المصدر إلى الاسم الموضوعِ له خاصة لا سيما وهو علمٌ يشير إلى الحقيقة الحاضرةِ في الذهن ومن جهة قيامِه مَقام المصدر مع الفعل، وقيل: هو مصدرٌ كغفران بمعنى التنزه، ففيه مبالغةٌ من حيث إضافةُ التنزه إلى ذاته المقدسةِ ومناسبةٌ تامة بين المحذوف وبين ما عُطف عليه في قوله سبحانه وتعالى، كأنه قيل: تنزه بذاته وتعالى، والإسراءُ السيرُ بالليل خاصة كالسُّرى وقوله تعالى: {لَيْلًا} لإفادة قلةِ زمان الإسراءِ لِما فيه من التنكير الدالِّ على البعضية من حيث الأجزاءُ دَلالتَه على البعضية من حيث الأفراد، فإن قولك: سِرت ليلًا كما يفيد بعضيةَ زمان سيرِك من الليالي يفيد بعضيتَه من فرد واحد منها بخلاف ما إذا قلت: سرتُ الليلَ فإنه يفيد استيعابَ السير له جميعًا، فيكون معيارًا للسير لا ظرفًا له ويؤيده قراءةُ {من الليل} أي بعضِه، وإيثارُ لفظ العبدِ للإيذان بتمحّضه عليه الصلاة والسلام في عبادته سبحانه وبلوغِه في ذلك غايةَ الغايات القاصيةِ ونهايةَ النهاياتِ النائية حسبما يلوّح به مبدأُ الإسراء ومنتهاه، وإضافةُ التنزيه أو التنزّه إلى الموصول المذكورِ للإشعار بعلّية ما في حيز الصلةِ للمضاف فإن ذلك من أدلة كمالِ قدرتِه وبالغِ حكمتِه ونهايةِ تنزهه عن صفات المخلوقين.
{مّنَ المسجد الحرام} اختُلف في مبدأ الإسراءِ فقيل: هو المسجدُ الحرام بعينه وهو الظاهرُ، فإنه رُوي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: «بينا أنا في المسجدالحرام في الحِجْر عند البيت بين النائم واليقظانِ إذْ اأتاني جبريلُ عليه الصلاة والسلام بالبُراق» وقيل: هو دارُ أم هانئ بنتِ أبي طالب، والمراد بالمسجد الحرام الحرمُ لإحاطته بالمسجد والْتباسِه به، أو لأن الحرم كلَّه مسجد، فإنه روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام كان نائمًا في بيت أم هانئ بعد صلاة العشاءِ فكان ما كان فقصّه عليها، فلما قام ليخرُج إلى المسجد تشبّثتْ بثوبه عليه الصلاة والسلام لتمنعه خشية أن يكذبه القومُ، قال عليه الصلاة والسلام: «وإن كذبوني» فلما خرج جلس إليه أبو جهل فأخبره صلى الله عليه وسلم بحديث الإسراءِ فقال أبو جهل: يا معشر كعبِ بنِ لؤي بنِ غالب، هلُمّ فحدِّثْهم فمن مصفّق وواضعٍ يدَه على رأسه تعجبًا وإنكارًا وارتد ناسٌ ممن كان آمن به، وسعى رجالٌ إلى أبي بكر فقال: إن كان قال ذلك لقد صدق، قالوا: أتصدّقه على ذلك؟ قال: إني أصدقه على أبعدَ من ذلك، فسُمِّيَ الصِّديقُ وكان فيهم من يعرف بيت المقدس فاستنعتوه المسجدَ فجُلِّي له بيتُ المقدس فطفِق ينظر إليه وينعته لهم، فقالوا: أما النعتُ فقد أصابه.
فقالوا: أخبِرْنا عن عِيرنا، فأخبرهم بعدد جمالِها وأحوالها وقال: {تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس يقدمُها جملٌ أورَقُ} فخرجوا يشتدون ذلك اليوم نحو الثنية فقال قائل منهم: هذه والله الشمسُ قد أشرقت، فقال آخرُ: هذه والله العِيرُ قد أقبلت يقدمها جملٌ أورقُ كما قال محمد، ثم لم يؤمنوا قاتلهم الله أنى يؤفكون.
واختُلف في وقته أيضًا، فقيل: كان قبل الهجرةِ بسنة، وعن أنس والحسنِ أنه قبل البعثة، واختلف أيضًا أنه في اليقظة أو في المنام فعن الحسن أنه كان في المنام، وأكثرُ الأقاويل بخلافه، والحق أنه كان في المنام قبل البعثة وفي اليقظة بعدها، واختُلف أيضًا أنه كان جُسمانيًا أو روحانيًا، فعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: ما فُقِد جسدُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ولكن عُرج بروحه، وعن معاوية أنه قال: إنما عُرج بروحه، والحقُّ أنه كان جُسمانيًا على ما ينبىء عنه التصديرُ بالتنزيه وما في ضمنه من التعجب، فإن الروحانيَّ ليس في الاستبعاد والاستنكار وخرقِ العادةِ بهذه المثابة، ولذلك تعجبت منه قريشٌ وأحالوه ولا استحالة فيه، فإنه قد ثبت في الهندسة أن قُطرَ الشمس ضِعفَ قطرِ الأرض مائة ونيفًا وستين مرة، ثم إن طرفها الأسفلَ يصل إلى موضع طرفِها الأعلى بحركة الفَلك الأعظمِ مع معاوقة حركةِ فلكِها لها في أقلَّ من ثانية، وقد تقرر أن الأجسام متساويةٌ في قَبول الأعراضِ التي من جملتها الحركةُ وأن الله سبحانه قادرٌ على كل ما يحيط به حيطة الإمكان فيقدر على أن يخلق تلك الحركةَ بل أسرعَ منها في جسد النبي صلى الله عليه وسلم أو فيما يحمِله ولو لم يكن مستبعدًا لم يكن معجزة {إلى المسجد الأقصا} أي بيتِ المقدس، سُمي به إذ لم يكن حينئذ وراءه مسجدٌ وفي ذلك من تربية معنى التنزيهِ والتعجّب ما لا يخفى {الذى بَارَكْنَا حَوْلَهُ} ببركات الدين والدنيا لأنه مهبِطُ الوحي ومتعبَّدُ الأنبياءِ عليهم الصلاة والسلام {لِنُرِيَهُ} غايةٌ للإسراء {مِنْ ءاياتنا} العظيمةِ التي من جملتها ذهابُه في برهة من الليل مسيرةَ شهرٍ، ولا يقدح في ذلك كونُه قبل الوصول إلى المقصِد ومشاهدةِ بيت المقدس وتمثّل الأنبياءِ له ووقوفِه على مقاماتهم العلية عليهم الصلاة والسلام، والالتفاتُ إلى التكلم لتعظيم تلك البركاتِ والآياتِ، وقرئ ليريَه بالياء {إِنَّهُ هُوَ السميع} لأقواله عليه الصلاة والسلام بلا أذن {البصير} بأفعاله بلا بصر حسبما يؤذِنُ به القصرُ فيكرمُه ويقرّبه بحسب ذلك، وفيه إيماءٌ إلى أن الإسراءَ المذكورَ ليس إلا لتكرمته عليه الصلاة والسلام ورفعِ منزلتِه وإلا فالإحاطةُ بأقواله وأفعاله حاصلةٌ من غير حاجة إلى التقريب، والالتفاتُ إلى الغَيبة لتربية المهابة. اهـ.

.قال الألوسي:

بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم.
{سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ}.
سبحان هنا على ما ذهب إليه بعض المحققين مصدر سبح تسبيحًا بمعنى نزه تنزيهًا لا بمعنى قال سبحان الله؛ نعم جاء التسبيح بمعنى القول المذكور كثيرًا حتى ظن بعضهم أنه مخصوص بذلك وإلى هذا ذهب صاحب القاموس في شرح ديباجة الكشاف، وجعل سبحانمصدر سبح مخففًا وليس بذاك، وقد يستعمل علمًا للتنزيه فيقطع عن الإضافة لأن الأعلام لا تضاف قياسًا ويمنع من الصرف للعلمية والزيادة واستدل على ذلك بقول الأعشى:
قد قلت لما جاءني فخره ** سبحان من علقمة الفاخر

وقال الرضى: لا دليل على علميته لأنه أكثر ما يستعمل مضافًا فلا يكون علمًا وإذا قطع فقد جاء منونًا في الشعر كقوله:
سبحانه ثم سبحانًا نعوذ به ** وقبلنا سبح الجودى والجمد

وقد جاء باللام كقوله:
سبحانك اللهم ذو السبحان

ولا مانع من أن يقال في البيت الذي استدلوا به: حذف المضاف إليه وهو مراد للعلم به وأبقى المضاف على حاله مراعاة لأغلب أحواله أي التجرد عن التنوين كقوله:
خالط من سلمى خياشيم وفا

انتهى، وظاهر كلام الزمخشري أنه علم للتسبيح دائمًا وعو على جنس لأن علم الجنس كما يوضع للذوات يوضع للمعاني فلا تفصيل عنده، وانتصر له صاحب الكشف فقال: إن ما ذهب إليه العلامة هو الوجه لأنه إذا ثبتت العلمية بدليلها فالإضافة لا تنافيها وليست من باب زيد المعارك لتكون شاذة بل من باب حاتم طى وعنترة عبس وذكر أنه يدل على التنزيه البليغ وذلك من حيث الاشتقاق من السبح وهو الذهاب والإبعاد من الأرض ثم ما يعطيه نقله إلى التفعيل ثم العدول عن المصدر إلى الاسم الموضوع له خاصة لا سيما وهو علم يشير إلى الحقيقة الحاضرة في الذهن وما فيه من قيامه مقام المصدر مع الفعل فإن انتصابه بفعل متروك الإضهار ولهذا لم يجز استعماله إلا فيه تعالى أسماؤه وعظم كبرياؤه، وكأنه قيل: ما أبعد الذي له هذه القدرة عن جميع النقائص فلا يكون اصطفاؤه لعبده الخصيص به إلا حكمة وصوابًا انتهى.
وأورد على ما ذكره أولا أن منع إضافة العلم قياسًا لم يفرق بين إضافة وإضافة فإن ادعى أن بعض الأعلام اشتهرت بمعنى كحاتم بالكرم فيجوز في نحوه الإضافة لقصد التخصيص ودفع العموم الطارىء فما نلأحن فيه ليس من هذا القبيل كما لا يخفى.
وما ذكر من دلالته على التنزيه من جميع النقائص هو الذي يشهد له المأثور، ففي العقد الفريد عن طلحة قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تفسير سبحان الله فقال: تنزيه لله تعالى عن كل سوء.